فصل: الحديث الثَّانِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الثَّانِي:

«أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ من بئرِ بضَاعَة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، مَشْهُور من حَدِيث أبي سعيد سعد بن مَالك بن سِنَان، الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: «قيل: يَا رَسُول الله، أَنَتَوَضَّأُ من بِئْر بضَاعَة- وَهِي بِئْر يُلقى فِيهَا الحِيَضُ، وَلُحُوم الْكلاب، والنَّتْنُ؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ المَاء طهُور، لَا يُنَجِّسُه شَيْء».
رَوَاهُ الْأَئِمَّة، أهل الْحل وَالْعقد: الشَّافِعِي فِي الْأُم، واخْتِلَاف الحَدِيث، وَأحمد فِي الْمسند، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنهمْ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، وَفِي بعض نسخه: صَحِيح.
قَالَ: وَقد جَوَّد أَبُو أُسَامَة هَذَا الحَدِيث، لم يَرْوِ أحد حَدِيث أبي سعيد فِي بِئْر بضَاعَة أحسن مِمَّا رَوَى أَبُو أُسَامَة، قَالَ: وَقد رُوي هَذَا الحَدِيث من غير وَجه عَن أبي سعيد.
وَقَالَ الإِمام أَحْمد: هَذَا حَدِيث صَحِيح. نَقله الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي تهذيبه وَغَيره عَنهُ.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد: صحَّحه يَحْيَى بن معِين، وَالْحَاكِم، وَآخَرُونَ من الْأَئِمَّة الْحفاظ، وَقَالَ فِي الْخُلَاصَة: وَقَوْلهمْ مقدم عَلَى قَول الدَّارَقُطْنِيّ إِن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِثَابِت.
قلت: كَذَا نَقَل عَن الدَّارَقُطْنِيّ هَذِه القولة أَيْضا ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه، وَلم أَرَها فِي علله، بل ذكر فِي علله الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده، ثمَّ قَالَ: وأحْسنهَا إِسْنَادًا: حَدِيث الْوَلِيد بن كثير، عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله بن رَافع، عَن أبي سعيد؛ وَحَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن عبد الله بن أبي سَلمَة الْمَاجشون، عَن عُبيد الله بِهِ، فَاعْلَم ذَلِك.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ: تكلَّم فِيهِ بَعضهم، وَلم يبيِّنه رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْقطَّان فِي كتاب الْوَهم والإِيهام: أمره إِذا بُين، تبين مِنْهُ ضعف الحَدِيث لَا حسنه، وَذَلِكَ أَن مَدَاره عَلَى أبي أُسَامَة، عَن مُحَمَّد بن كَعْب، ثمَّ اختُلف عَلَى أبي أُسَامَة فِي الْوَاسِطَة الَّتِي بَين مُحَمَّد بن كَعْب، وَأبي سعيد، فقوم يَقُولُونَ: عبيد الله بن عبد الله بن رَافع بن خديج، وَقوم يَقُولُونَ: عبد الله بن عبد الله بن رَافع بن خديج. وَله طَرِيق آخر، من رِوَايَة: ابْن إِسْحَاق، عَن سليط بن أَيُّوب.
واختُلف عَلَى ابْن إِسْحَاق فِي الْوَاسِطَة بَين سليط وَأبي سعيد، فقوم يَقُولُونَ: عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع- قلت: وَنقل أَبُو دَاوُد هَذَا فِي سنَنه عَن بَعضهم- وَقوم يَقُولُونَ: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع؛ وَقوم يَقُولُونَ: عَن عبد الرَّحْمَن بن رَافع.
فَتحصل فِي هَذَا الرجل- يَعْنِي الرَّاوِي لَهُ عَن أبي سعيد- خَمْسَة أَقْوَال: عبد الله بن عبد الله بن رَافع، وَعبيد الله بن عبد الله بن رَافع، وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع، وَعبد الرَّحْمَن بن رَافع، وَعبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع.
وكيفما كَانَ، فَهُوَ من لَا تعرف لَهُ حَال وَلَا عين، والأسانيد بِمَا ذَكرْنَاهُ فِي كتب الحَدِيث مَعْرُوفَة، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي تَارِيخه الْخلاف الْمَذْكُور مُفَسرًا.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَلِحَدِيث بِئْر بضَاعَة طَرِيق حسن، من غير رِوَايَة أبي سعيد، من رِوَايَة سهل بن سعد.
قَالَ قَاسم بن أصبغ: ثَنَا مُحَمَّد بن وَضَّاح، ثَنَا أَبُو عَلّي عبد الصَّمد بن أبي سكينَة الْحلَبِي، بحلب، نَا عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، عَن أَبِيه، عَن سهل بن سعد: قَالُوا: «يَا رَسُول الله، إِنَّك تتوضأ من بِئْر بضَاعَة، وفيهَا مَا يُنْجِي النَّاس والمحايض، وَالْجنب؟! فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء».
قَالَ قَاسم: هَذَا من أحسن شَيْء فِي بِئْر بضَاعَة.
وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أَيمن: ثَنَا ابْن وَضَّاح... فَذكره- أَيْضا- بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه.
وَقَالَ ابْن حزم فِي كتاب الإِيصال: عبد الصَّمد بن أبي سكينَة ثِقَة مَشْهُور.
وَذكره المنتجالي، وَقَالَ: إِن ابْن وضاح لقِيه بحلب. ويُروى عَن سهل بن سعد فِي بِئْر بضَاعَة من طرق، هَذَا خَيرهَا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام: أخرج أَبُو عبد الله بن مَنْدَه هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ، عَن عبيد الله بن عبد الله بن رَافع، وَقَالَ: هَذَا إِسْنَاد مَشْهُور، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَتَركه البُخَارِيّ وَمُسلم لاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده. رَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب، عَن الثِّقَة عِنْده، عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي سعيد. ثمَّ ذكر رِوَايَة مطرف بن طريف، عَن خَالِد بن أبي نوف، عَن سليط بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، عَن أَبِيه. وَقَالَ بعد ذَلِك: فإنْ كَانَ عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع هَذَا، هُوَ الْأنْصَارِيّ الَّذِي رَوَى عَن جَابر بن عبد الله، فقد رَوَى عَنهُ هِشَام بن عُرْوَة، وَهُوَ رجل مَشْهُور فِي أهل الْمَدِينَة. وَعبد الله بن رَافع بن خديج مَشْهُور، وَعبيد الله ابْنه مَجْهُول. فَهَذَا حَدِيث مَعْلُول بِرِوَايَة عبيد الله بن عبد الله بن رَافع.
وَقد أخرج الْحَافِظ، أَبُو مُحَمَّد عبد الْغَنِيّ بن سعيد الْمصْرِيّ، فِي كتاب: إِيضَاح الإِشكال رِوَايَة مطرف، عَن خَالِد بن أبي نوف، عَن سليط، عَن ابْن أبي سعيد، عَن أَبِيه قَالَ: «انْتَهَيْت إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ يتَوَضَّأ من بِئْر بضَاعَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، تتوضأ مِنْهَا وَهِي يُلقى فِيهَا مَا يُلقى من النتن؟! فَقَالَ: إنَّ المَاء لَا يُنَجِّسه شَيْء».
قَالَ الشَّيْخ فِي الإِمام: وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، عَن سليط شَيْء آخر، ذكره أَبُو مُحَمَّد بن أبي حَاتِم فِي الْمَرَاسِيل عَن أَبِيه، قَالَ: مُحَمَّد بن إِسْحَاق بَينه وَبَين سليط رجل.
وَكَلَامه مُحْتَمل لِأَن يكون بَينهمَا رجل فِي حَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَبَين أَن يكون بَينهمَا رجل مُطلقًا، وَالْأَقْرَب إِلَى وضع الْكتاب الْمَذْكُور هُوَ الثَّانِي. اه.
قلت: وَالَّذِي يظْهر، صِحَة الحَدِيث مُطلقًا، كَمَا صحَّحه الْأَئِمَّة المتقدمون: التِّرْمِذِيّ، وَأحمد، وَيَحْيَى بن معِين، وَالْحَاكِم، وهم أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ والمرجوع إِلَيْهِم.
وتضعيف ابْن الْقطَّان إِيَّاه لجَهَالَة الوسائط بَين سليط بن أَيُّوب وَأبي سعيد، يُعَارضهُ رِوَايَة سليط عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَلَيْسَت مِمَّا ذكره، فَلَيْسَ عبد الرَّحْمَن هَذَا مَجْهُولا، رَوَى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ البُخَارِيّ.
وَأما قَوْله: إنَّ الْخَمْسَة الَّذين رَوَوْهُ عَن أبي سعيد كلهم مَجَاهِيل. فَفِيهِ نظر؛ لِأَن تَصْحِيح الحفَّاظ الأُوَل لهَذَا الحَدِيث تَوْثِيق مِنْهُم لَهُم، إِذْ لَا يُظن بِمن دونهم الإِقدام عَلَى تَصْحِيح مَا رِجَاله مَجَاهِيل؛ لِأَنَّهُ تَدْلِيس فِي الرِّوَايَة وغش، وهم برَاء من ذَلِك.
وَقد وثَّق أَبُو حَاتِم ابْن حبَان عبيد الله بن عبد الله بن رَافع، وَعبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع، وَعقد لَهما ترجمتين فِي ثقاته. وهما فِي كتاب البُخَارِيّ وَاحِد، وَكَذَلِكَ عِنْد ابْن أبي حَاتِم، بل لَعَلَّ الْخَمْسَة الْمَذْكُورين عِنْد ابْن الْقطَّان واحدٌ عِنْد البُخَارِيّ.
لَا جرم أَن الْحَافِظ أَبَا مُحَمَّد بن حزم قَالَ فِي كِتَابه المحلَّى شرح المجلَّى عقب حَدِيث بِئْر بضَاعَة: هَذَا حَدِيث صَحِيح، جَمِيع رُوَاته معروفون عدُول.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي صَحِيحه- لمَّا ذكر حَدِيث عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن جَابر رَفعه: «من أَحْيَا أَرضًا ميتَة، فَلهُ فِيهَا أجر...» الحَدِيث-: ذكر الْخَبَر المدحض قَول من زعم أَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن هَذَا مَجْهُول، لَا يعرف. ثمَّ أخرجه من حَدِيث هِشَام، عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع بن خديج، سَمِعت جَابِرا يذكر... الحَدِيث. وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي كتاب إحْيَاء الْموَات حِين يذكر الإِمام الرَّافِعِيّ هَذَا الحَدِيث.
وإِذْ قد فَرغْنَا من تَصْحِيح هَذَا الحَدِيث، فلابد من إِيرَاد ضبط بعض أَلْفَاظه، وفوائده، فَنَقُول:
«بضَاعَة»: بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَيُقَال: بِكَسْرِهَا، لُغَتَانِ، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي وَغَيره، وَالضَّم أشهر وأفصح، وَلم يذكر جمَاعَة سواهُمَا. ثمَّ قيل: هُوَ اسْم لصَاحب الْبِئْر. وَقيل: اسْم لموضعها. وَهِي بِئْر بِالْمَدِينَةِ، بَصق رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا، وبرَّك فِيهَا، وَتَوَضَّأ فِي دلو وَرَدَّه فِيهَا، وَكَانَ إِذا مرض مَرِيض يَقُول لَهُ: «اغْتسل بِمَائِهَا» فيغتسل فَكَأَنَّمَا نشط من عقال. وَهِي فِي ديار بني سَاعِدَة مَعْرُوفَة، وَبهَا مَال من أَمْوَال الْمَدِينَة.
والحِيَض: بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْيَاء، جمع: حِيَضة- بِكَسْر الْحَاء- وَهِي الْخِرْقَة الَّتِي تحشي بهَا الْمَرْأَة. وَقد تطلق الحِيضة- بِكَسْر الْحَاء- عَلَى الِاسْم من «الحَيضة» بِالْفَتْح.
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد والدَّارَقُطْنِيّ: «وعَذِر النَّاس»: وَهِي- بِفَتْح الْعين، وَكسر الذَّال- اسْم جنس للعذرة. وَضبط أَيْضا بِكَسْر الْعين وَفتح الذَّال، كمعدة ومِعَد، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَضم الْعين فِيهَا تَصْحِيف.
وَقَوله: «وَمَا يُنْجِي الناسُ»: هُوَ بياء مثناة تَحت مَضْمُومَة، ثمَّ نون سَاكِنة، ثمَّ جِيم مَكْسُورَة. كَذَا ضَبطه صَاحب الإِمام.
ثمَّ قَالَ: و«النَّاس»: بِرَفْع السِّين عَلَى الفاعلية، يُقَال: أنجى الرجل، إِذا أحدث، فَيحْتَمل أَلا يكون فِيهِ حذف وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ- الْمَذْكُورَة «وَعذر النَّاس»- وَيحْتَمل أَن يكون فِيهِ حذف عَلَى تَقْدِير: ويُلقى فِيهِ خرق مَا يُنجي النَّاس، كَمَا قيل فِي المحايض.
قَالَ الْخطابِيّ وَآخَرُونَ: لم يكن إِلْقَاء ذَلِك تعمدًا من آدَمِيّ، بل كَانَت هَذِه الْبِئْر فِي حَدُور السَّيْل تكسح الأقذار من الأفنية، فتلقيها فِيهَا، وَلَا يُؤثر فِي المَاء لكثرته. وَقيل: كَانَت الرّيح تلقي ذَلِك. وَقيل: المُنَافِقُونَ. وَيحْتَمل الرّيح والسيول، وَأما: المُنَافِقُونَ، فبعيد؛ لِأَن الِانْتِفَاع بهَا مُشْتَرك، مَعَ تَنْزِيه الْمُنَافِقين وَغَيرهم الْمِيَاه فِي الْعَادة.
وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ: أَن مَاء هَذِه الْبِئْر كَانَ كَنُقَاعَةِ الْحِنَّاء. وَهَذَا غَرِيب جدًّا، لم أَرَه بعد الْبَحْث، وسؤال بعض الْحفاظ عَنهُ، وَهَذَا الْوَصْف لَا أعلمهُ يلقى إلاَّ فِي صفة الْبِئْر الَّتِي سُحِر فِيهَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي: بِئْر ذروان.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تلبيسه: «أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ من غَدِير مَاؤُهُ كنقاعة الْحِنَّاء».
وَذكرهَا ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب، وَلَعَلَّه أَخذهَا من كتاب الرَّافِعِيّ. قَالَ بَعضهم: إنَّها مَوْجُودَة فِي شرح السنَّة لِلْبَغوِيِّ، وراجعته، فَلم أجد ذَلِك فِيهِ.
وَالَّذِي أعلمهُ فِي صفة بِئْر بضَاعَة مَا قَالَه أَبُو دَاوُد فِي سنَنه: سَمِعت قُتَيْبَة بن سعيد يَقُول: سَأَلت قَيِّمَ بِئْر بضَاعَة عَن عمقها، قَالَ: أَكثر مَا يكون فِيهَا المَاء إِلَى الْعَانَة. قلت: فَإِذا نقص؟ قَالَ: دون الْعَوْرَة. قَالَ أَبُو دَاوُد: وقَدَّرتُ بِئْر بضَاعَة بردائي، مددته عَلَيْهَا ثمَّ ذرعته فَإِذا عرضهَا سِتَّة أَذْرع، وَسَأَلت الَّذِي فتح لي بَاب الْبُسْتَان فأَدخلني إِلَيْهِ: هَل غُيِّر بنيانها عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا. وَرَأَيْت فِيهَا مَاء متغير اللَّوْن.
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي- كَمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة والسّنَن-: بِئْر بضَاعَة كَثِيرَة المَاء وَاسِعَة، وَكَانَ يُطرح فِيهَا من الأنجاس مَا لَا يُغير لَهَا لونًا، وَلَا طعمًا، وَلَا يظْهر لَهُ فِيهَا ريح، فَقيل للنَّبِي: تتوضأ من بِئْر بضَاعَة، وَهِي يُطرح فِيهَا كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مجيبًا: «المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء». يَعْنِي: فِي المَاء مثلهَا.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يُعْلَمَ: أَن بِئْر بضَاعَة كَانَت واقفةً، وأمَّا مَا قَالَه الْوَاقِدِيّ وَغَيره: أنَّ هَذِه الْبِئْر كَانَ يُسْقَى مِنْهَا الزَّرْع والْبَسَاتِين. وَقَول بَعضهم: إِنَّهَا كَانَت جَارِيَة. فغلط؛ لِأَن الْعلمَاء ضبطوا بِئْر بضَاعَة، وعرَّفوها فِي كتب مَكَّة وَالْمَدينَة، وَأَن المَاء لم يكن يجْرِي، والواقدي لَا يحْتَج بِرِوَايَاتِهِ الْمُتَّصِلَة، فَكيف بِمَا يُرْسِلهُ أَو يَقُوله عَن نَفسه؟ وَعَلَى تَقْدِير صِحَة ذَلِك، فَيكون مَعْنَاهُ: أَنه يُسْقَى مِنْهَا بالدلو والناضح، عملا بِمَا نَقله الْأَثْبَات فِي صفتهَا.
وَالْمرَاد بالعورة فِي كَلَام قَيِّم الْبِئْر: الْفرج، يَعْنِي: دون الْفرج بِقَلِيل. وَكَأَنَّهَا كَانَت تنقص شبْرًا أَو نَحوه، وإنَّما قدرهَا أَبُو دَاوُد بردائه، وَسَأَلَ عَنْهَا قُتَيْبَة، ليعلم أَنَّهَا كَبِيرَة جدًّا.
وَالْمَقْصُود: أَن بعض الْأَئِمَّة يَقُول: إِذا كَانَ المَاء غير جارٍ، وَوَقعت فِيهِ نَجَاسَة، فَإِن كَانَ بِحَيْثُ لَو حُرِّك أحد طَرفَيْهِ تَحرَّك الآخر فَهُوَ نجس كُله، وإلاَّ فطاهر. وَهَذِه الْبِئْر كَانَت دون هَذَا، فمعلوم أَنَّهَا إِذا حرَّك أحد طرفيها، تَحرَّك الآخر، وَقد صَحَّ أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مِنْهَا، وَكَانَت النَّجَاسَات تقع فِيهَا، فَهَذَا يردُّ مَذْهَب هَذَا الإِمام. هَذَا مَقْصُود قُتَيْبَة وَأبي دَاوُد بِمَا ذكرَاهُ وَلِهَذَا قَالَ: سَأَلت الَّذِي فتح لي الْبَاب: هَل غُيِّر بناؤها عمَّا كَانَ فِي زمن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا.
وَقَوله: رَأَيْت فِيهَا مَاء متغير اللَّوْن. هَذَا التَّغَيُّر كَانَ بطول الْمكْث أَو نَحوه، أَو من أَصْلهَا، لَا بِنَجَاسَة، ثمَّ إنَّ هَذِه صفة مَائِهَا فِي زمن أبي دَاوُد، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن تكون صفتهَا كَذَلِك فِي زمن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَعَلَّه قلَّ اسْتِعْمَالهَا، فَتغير مَاؤُهَا.
وَاعْلَم: أَن هَذَا الحَدِيث عَام مَخْصُوص، خُصَّ مِنْهُ الْمُتَغَيّر بِنَجَاسَة، فإنَّه ينجس بالإِجماع، وَخص مِنْهُ أَيْضا: مَا دون الْقلَّتَيْنِ إِذا لاقته نَجَاسَة، عَلَى قَول الشَّافِعِي وَأحمد وكثيرين، وَقَالَ مَالك وَآخَرُونَ بِعُمُومِهِ، فَالْمُرَاد: المَاء الْكثير الَّذِي لم تغيره نَجَاسَة لَا يُنجسهُ شَيْء، وَهَذِه كَانَت صفة بِئْر بضَاعَة.
وَهَذَا الحَدِيث لَا يُخَالف حَدِيث الْقلَّتَيْنِ الْآتِي؛ لِأَن ماءها كَانَ كثيرا، لَا يُغَيِّره وُقُوع هَذِه الْأَشْيَاء فِيهِ.
وَقَوله: «أَتَتَوَضَّأُ» هُوَ بتاءين مثناتين من فَوق، خطابٌ للنَّبِي، كَمَا وَقع مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة قَاسم بن أصبغ الْمُتَقَدّمَة، قَالُوا: «يَا رَسُول الله، إِنَّك تتوضأ من بِئْر بضَاعَة». وَفِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه الْمُتَقَدّمَة أَيْضا: «انْتَهَيْت إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ يتَوَضَّأ من بِئْر بضَاعَة». وَكَذَلِكَ جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَة الشَّافِعِي «قيل: يَا رَسُول الله، أتتوضأ من بِئْر بضَاعَة». وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: «مَرَرْت بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يتَوَضَّأ من بِئْر بضَاعَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، أتتوضأ مِنْهَا، وَهِي يُطرح فِيهَا...» الحَدِيث، وَأول من نَبَّه عَلَى هَذَا الضَّبْط: النَّوَوِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَتَبعهُ شَيخنَا فتح الدَّين بن سيد النَّاس فِي شرح التِّرْمِذِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ: إنَّما ضبطت كَونه بِالتَّاءِ لئلايُصَحَّف، فَيُقَال: «أَنَتَوَضَّأُ» بالنُّون. قَالَ: وَقد رَأَيْت من صحَّفه، واستبعد كَون النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ مِنْهَا قَالَ: وَهَذَا غلط فَاحش. لما ذَكرْنَاهُ.
قلت: ومِمَّا يَنْبَغِي أَن يُنتبه لَهُ أَن النَّوَوِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب: أخرج هَذَا الحَدِيث من أخرج الأول- يَعْنِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة- وَهَذِه الْعبارَة تَقْتَضِي كَونه فِي الْمُوَطَّأ، فإنَّ الأول عزاهُ إِلَى الْمُوَطَّأ وَهَذَا الحَدِيث لَا يُوجد فِي موطأ من الموطآت المرويَّة عَن الإِمام مَالك- رَحِمَهُ اللَّهُ- بل لم يعزه أحد من مصنفي الْأَحْكَام إِلَيْهِ.
وَقد يُجاب عَن النَّوَوِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: بِأَنَّهُ أَرَادَ بقوله: أخرجه من أخرج الأول: الْمُعظم. وَلَا يخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَواب.

.الحديث الثَّالِث:

رُوي أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «خَلَقَ اللهُ الماءَ طهُورا، لَا يُنَجِّسُهُ شيءٌ، إلاَّ مَا غَيَّر طعمه، أَو رِيحه».
اعْلَم: أَن صدر هَذَا الحديثَ صحيحٌ، كَمَا تقدم الْآن من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بِاللَّفْظِ السَّابِق، وَلم أرَ فِيهِ لفظ: «خلق الله»، فَتنبه لَهُ، وَرُوِيَ أَيْضا من طُرُق أُخر:
فأولها: عَن جَابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: «انتهينا إِلَى غَدِير، فَإِذا فِيهِ جيفة حمَار، قَالَ: فَكَفَفْنَا عَنهُ، حتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إنَّ الماءَ لَا يُنجسهُ شيءٌ فاستقينا وحملنا».
رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه بِإِسْنَاد عَلَى شَرط الصَّحِيح، لَوْلَا طريف بن شهَاب السَّعْدِيّ، فإنَّه واهٍ مَتْرُوك عِنْدهم، حتَّى قَالَ فِيهِ ابْن حبَان: إِنَّه كَانَ مغفلاً، يَهِمُ فِي الْأَخْبَار، حتَّى يقلبها، ويروي عَن الثِّقَات مَا لَا يشبه حَدِيث الْأَثْبَات.
لَكِن يَقع فِي بعض نسخه بدله طَارق بن شهَاب، فإنْ صَحَّ- مَعَ بعده- فَهُوَ الأحمسي، صَحَابِيّ، فَيصح السَّنَد.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «المَاء لايُنَجِّسُهُ شَيْء».
رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده، وَالطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه، وَأَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث: سماك بن حَرْب، عَن عِكْرِمَة، عَنهُ.
وَرَوَاهُ إِمَام الْأَئِمَّة، مُحَمَّد بن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه كَذَلِك، لَكِن لَفظه: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «أَرَادَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتَوَضَّأ، فَقَالَت امْرَأَة من نِسَائِهِ: يَا رَسُول الله قد توضَّأتُ من هَذَا. فَتَوَضَّأ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء».
وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه- أَيْضا- بِلَفْظ: اغْتسل بعض أَزوَاج رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم من جَفْنَة، فجَاء رَسُول الله يغْتَسل مِنْهَا، أَو يتَوَضَّأ، فَقَالَت: «يَا رَسُول الله، إنِّي كنت جُنبًا. فَقَالَ: إنَّ المَاء لَا يَجْنُب».
وَهُوَ فِي السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث سماك، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «اغْتسل بعض أَزوَاج رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَفْنَةٍ، فَأَرَادَ رَسُول الله أَن يتَوَضَّأ مِنْهَا أَو يغْتَسل، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي كنت جُنبًا. فَقَالَ: إنَّ الماءَ لَا يَجْنُب».
قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
وَرَوَاهُ أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، عَن شريك، عَن سماك، فسمَّاها: مَيْمُونَة.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاق، عَن وَكِيع، عَن سُفْيَان، عَن سماك، أَن مَيْمُونَة...
قَالَ الْحَازِمِي: لَا يُعْرَف مُجَوَّدًا إلاَّ من حَدِيث سماك، وَسماك فِيمَا ينْفَرد بِهِ رَدَّه بعض الْأَئِمَّة، وقَبِلَه الْأَكْثَرُونَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته: قَالَ الْحَاكِم: قد احْتج البُخَارِيّ بِأَحَادِيث عِكْرِمَة، وَاحْتج مُسلم بِأَحَادِيث سماك بن حَرْب، وَهَذَا حَدِيث صَحِيح فِي الطَّهَارَة، وَلَا تحفظ لَهُ عِلّة.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ورُوي مُرْسَلاً. قَالَ: وَمن أسْندهُ أحفظ.
قلت: وأمَّا ابْن حزم فإنَّه وَهَّاه فِي محلاه فَقَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يصحّ، لِأَنَّهُ بِرِوَايَة سماك بن حَرْب، وَهُوَ يقبل التَّلْقِين، شهد عَلَيْهِ بذلك شُعْبَة وَغَيره، وَهَذِه جُرحة ظَاهِرَة.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن سهل بن سعد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء».
رَوَاهُ قَاسم بن أصبغ- كَمَا تقدم فِي الحَدِيث قبله- بِسَنَد حسن، وَالدَّارَقُطْنِيّ، من حَدِيث مُحَمَّد بن مُوسَى الْحَرَشِي، عَن فُضَيْل بن سُلَيْمَان النميري، عَن أبي حَازِم، عَن سهل.
وفُضَيْل هَذَا: تكلَّم فِيهِ يَحْيَى، وَأَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم. لَكِن احتجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ.
وَمُحَمّد هَذَا: وَهَّاه أَبُو دَاوُد، ووثَّقه غَيره.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إنَّ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء».
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أَوسط معاجمه من حَدِيث: شريك، عَن الْمِقْدَام بن شُريح، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة. ثمَّ قَالَ: لم يَرْوِ هَذَا الحَدِيث عَن الْمِقْدَام إلاَّ شريك. وَذكره ابْن السكن فِي صحاحه بِحَذْف إِن.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بِئْر بضَاعَة، فَقَالَ: «المَاء طهُور، لَا يُنجسهُ شَيْء».
ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله من حَدِيث سعيد المَقْبُري عَنهُ، وَقَالَ: إنَّه حَدِيث غير ثَابت.
وَأما الِاسْتِثْنَاء الْوَاقِع فِي آخِره، فَروِيَ أَيْضا من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن ثَوْبَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «المَاء طهُور، إلاَّ مَا غلب عَلَى رِيحه، أَو طعمه».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من حَدِيث رشدين، عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن رَاشد بن سعد عَنهُ.
وَرشْدِين هَذَا: هُوَ ابْن سعد- وَيُقَال: ابْن أبي رشدين- وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي، وَأَبُو زرْعَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مُنكر الحَدِيث، فِيهِ غَفلَة، يحدث بِالْمَنَاكِيرِ عَن الثِّقَات. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَضَعفه أَحْمد، وَقَالَ فِي رِوَايَة: هُوَ رجل صَالح، وَلكنه لَا يُبَالِي عمَّن يروي. وَمرَّة قَالَ: أَرْجُو أنَّه صَالح الحَدِيث. وَقَالَ ابْن يُونُس: كَانَ رجلا صَالحا، لَا يُشَكُّ فِي صَلَاحه وفضله، فَأَدْرَكته غَفلَة الصَّالِحين، فَخَلَّط فِي الحَدِيث. وَقَالَ الْجوزجَاني: عِنْده معاضيل، ومناكيره كَثِيرَة، وَسمعت ابْن أبي مَرْيَم يثني عَلَيْهِ فِي دينه.
قَالَ ابْن حبَان: كَانَ يقْرَأ كل مَا دفع إِلَيْهِ، سَوَاء كَانَ من حَدِيثه أَو لم يكن. وَكَذَلِكَ قَالَ قُتَيْبَة.
وَقَالَ ابْن عدي: رشدين ضَعِيف، وَقد خُصَّ نَسْله بالضعف: حجاج بن رشدين، وَمُحَمّد بن الْحجَّاج، وَأحمد بن مُحَمَّد.
وَمُعَاوِيَة بن صَالح: هُوَ قَاضِي الأندلس، وَهُوَ ثِقَة، كَمَا قَالَ أَحْمد وَأَبُو زرْعَة وَغَيرهمَا. وَأما رَاشد بن سعد: فوثَّقه ابْن معِين، وَأَبُو حَاتِم، وَابْن سعد، وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ، وشذَّ ابْن حزم، فَقَالَ: ضَعِيف. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يُعتبر بِهِ، لَا بَأْس.
أخرج لَهُ مُسلم، وَقَالَ يَحْيَى: هُوَ صَالح. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا الحَدِيث لم يرفعهُ غير رشدين، عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أبي أُمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إنَّ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء، إلاَّ مَا غلب عَلَى رِيحه وطعمه ولونه».
وَهَذَا الحَدِيث رُوِيَ من طَرِيقين:
أَحدهمَا مُسندَة: رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مَحْمُود بن خَالِد، وَغَيره، عَن مَرْوَان بن مُحَمَّد، نَا رشدين، نَا مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن رَاشد بن سعد، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا كَمَا تقدم.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه كَذَلِك.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه، وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْأَوْسَط، من حَدِيث مُحَمَّد بن يُوسُف الغضيضي، عَن رشدين بن سعد، عَن مُعَاوِيَة بِهِ. وَلم يذكرَا: «ولونه».
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يَرْوِ هَذَا الحَدِيث عَن مُعَاوِيَة بن صَالح إلاَّ رشدين، تَفرَّد بِهِ مُحَمَّد بن يُوسُف.
قلت: لَا، فقد تَابعه مَرْوَان بن مُحَمَّد، كَمَا أخرجه ابْن مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيّ فِيمَا سلف.
وَقد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه- أَيْضا- من حَدِيث مَرْوَان بن مُحَمَّد الطاطري، عَن رشدين بِهِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ- أَيْضا- من رِوَايَة ثَوْر بن يزِيد، عَن رَاشد بن سعد بِهِ، وَلَفظه: «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يُنجسهُ شَيْء، إلاَّ مَا غلب رِيحه أَو طعمه». وَقَالَ: كَذَا وجدته، وَلَفظ الْقلَّتَيْنِ فِيهِ غَرِيب.
قَالَ ابْن عدي: وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ يرويهِ عَن ثَوْر إلاَّ حَفْص بن عمر.
قلت: قد رَوَاهُ بَقِيَّة أَيْضا عَنهُ، أخرج ذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وَلَفظه: «إنَّ المَاء طَاهِر، إلاَّ إنْ تغيَّر رِيحه، أَو طعمه، أَو لَونه بِنَجَاسَة تحدث فِيهِ».
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: مُرْسلَة رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من حَدِيث الْأَحْوَص بن حَكِيم، عَن رَاشد بن سعد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء إلاَّ مَا غلب عَلَى رِيحه أَو طعمه».
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِزِيَادَة: «أَو لَونه».
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا مُرْسل، قَالَ: وَوَقفه أَبُو أُسَامَة عَلَى رَاشد. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: الصَّحِيح أَن هَذَا الحَدِيث مُرْسل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: هَذَا حَدِيث يرويهِ رشدين بن سعد، عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، عَن رَاشد، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا، وَخَالفهُ الْأَحْوَص بن حَكِيم فَرَوَاهُ عَن رَاشد بن سعد مُرْسلا، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو أُسَامَة: عَن الْأَحْوَص، عَن رَاشد قَوْله وَلم يُجَاوز بِهِ راشدًا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلَا يثبت الحَدِيث.
قلت: فَتَلَخَّصَ أَن الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور ضعيفٌ، لَا يحلّ الِاحْتِجَاج بِهِ، لِأَنَّهُ مَا بَين مُرْسل وَضَعِيف.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب اتِّفَاق الْمُحدثين عَلَى تَضْعِيفه.
وَقد أَشَارَ إمامنا الْأَعْظَم، أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي إِلَى ضعفه فَقَالَ: وَمَا قلت من أنَّه إِذا تغيَّر طعم المَاء وريحه ولونه كَانَ نجسا، يُروى عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم من وَجه لَا يُثْبِتُ أهل الحَدِيث مثله، وَهُوَ قَول الْعَامَّة، لَا أعلم بَينهم خلافًا. وَتَابعه عَلَى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ فِي سنَنه: هَذَا حَدِيث غير قوي، إلاَّ أنَّا لَا نعلم فِي نَجَاسَة المَاء إِذا تغيَّر خلافًا.
وَابْن الْجَوْزِيّ، قَالَ فِي تَحْقِيقه: هَذَا حَدِيث لَا يَصح.
فَإِذا عُلم ضعف الحَدِيث، تعيَّن الِاحْتِجَاج بالإِجماع، كَمَا قَالَه الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ، وَغَيرهمَا، من الْأَئِمَّة.
قَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمع الْعلمَاء عَلَى أنَّ المَاء الْقَلِيل أَو الْكثير، إِذا وَقعت فِيهِ نَجَاسَة، فغيَّرت طعمًا أَو لونًا أَو ريحًا فَهُوَ نجس.
وَنقل الإِجماع كَذَلِك جمع غَيره.
وَذكر الإِمام الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الحَدِيث بعد هَذَا الْبَاب بِلَفْظ: الطّعْم والرائحة دون اللَّوْن ثمَّ قَالَ: نُصَّ عَلَى الطّعْم وَالرِّيح، وقاس الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه اللَّوْن عَلَيْهِمَا.
وَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ قلَّد فِي ذَلِك الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، فإنَّه قَالَ فِي الْمُهَذّب، كقولته، وَلم يقفا رحمهمَا الله عَلَى الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا اللَّوْن الَّتِي قَدَّمناها من طَرِيق ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ.
فَإِن قلت: لعلهما رأياها فتركاها لأجل ضعفها ونَزَّلا وجودهَا وَالْحَالة هَذِه كعدمها؟ قلت: هَذَا لَا يصحّ، لِأَنَّهُمَا لَو رَاعيا الضعْف واجتنباه، لتركا جملَة الحَدِيث، لضَعْفه الْمُتَّفق عَلَيْهِ.
وَاعْلَم: أَن هَذَا الحَدِيث ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الْآتِي، وَوَقعت لنا مَعَه فِيهِ مناقشة، فإنَّه قَالَ: وَقَالَ مَالك: لَا ينجس المَاء الْقَلِيل إلاَّ بالتغيُّر كالكثير، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «خُلَقَ المَاء طهُورا، لَا يُنَجِّسه شَيْء، إلاَّ مَا غَيَّر طعمه أَو رِيحه»، وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ، وَالشَّافِعِيّ حمل هَذَا الْخَبَر عَلَى الْكثير؛ لِأَنَّهُ ورد فِي بِئْر بضَاعَة، وَكَانَ ماؤهاكثيرًا. انْتَهَى.
وَهَذِه الدَّعْوَى: أَن هَذَا الْخَبَر ورد فِي بِئْر بضَاعَة لَا تُعرف؛ نعم صَدْرُه ورد فِيهَا كَمَا قَدمته، وَأما هَذَا الِاسْتِثْنَاء فَفِي حَدِيث آخر كَمَا قَرّرته لَك فاعلمه.
والإِمام الرَّافِعِيّ، الظَّاهِر أَنه تبع الْغَزالِيّ فِي هَذِه الدَّعْوَى، فقد ذكر ذَلِك فِي الْمُسْتَصْفَى حَيْثُ قَالَ لما سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة فَقَالَ: «خلق الله المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ إلاَّ مَا غيَّر طعمه أَو لَونه أَو رِيحه».
وَوَقع فِي الْكِفَايَة لِابْنِ الرّفْعَة، عزو الِاسْتِثْنَاء إِلَى رِوَايَة أبي دَاوُد، فَقَالَ: وَرِوَايَة أبي دَاوُد: «خلق الله المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ إلاَّ مَا غير طعمه أَو رِيحه» وَهَذَا لَيْسَ فِي أبي دَاوُد فاعلمه.